الأحد ، 11 ذو القعدة ، 1445
section banner

هل يمكن أن تكون منافقًا وأنت لا تشعر؟

poster
تأملت قول التابعي الجليل: عبدالله بن أبي مليكة التميمي، رحمه الله: "أدركتُ ثلاثين من أصحاب محمد ﷺ ما منهم من أحد إلا يخاف النفاق على نفسه!".
وقد أورده البخاري في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم تحت عنوان: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر!
ولا أفهم من هذا إلا أنهم يقصدون به النفاق العملي لا الاعتقادي، إذ لا يعقل أن يكون واحد منهم يشك في إيمانه هل هو ممن يبطن الكفر ويظهر الإسلام؟! وهل هو مصدق موقن أم شاك مرتاب؟ فهذا المعنى منتف عنهم كليًا، ويدل عليه خشيتهم من النفاق، فإنه ما خافه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق!
قال الحافظ في الفتح: (قد جَزِم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال غَيرُ واحد، ولم ينقل عن غيرهم خلاف في ذلك، وكأنه إجماع؛ وذلك لأن المؤمن قد يعرض له في علمه ما يشوبه مما يخالف الإخلاص).
ومن خلال الامعان في معرفة واقع الناس وتباين أحوالهم في الاعتقاد والعمل وسرعة تقلب القلوب وضعف الإيمان، يتبين أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مع كامل يقينهم يخافون أيضًا النفاق الاعتقادي على أنفسهم، كما يخاف المسلم على نفسه الشرك والردة عن الدين.
ومن ذلك النفاق: أن يبقى في قلوبهم نوع مودة أو مولاة للكافرين؛ أو يحملوا في صدروهم خبيئة سوء من الغل والضغينة الخفية على المؤمنين!
إذ عامة نفاق القلوب يتجلى في هذا المشهد العملي الخفي.
وبعيدًا عن آيات النفاق الظاهرة المعروفة: [إذا حدث كذَب، وإذا وعدَ أخلف، وإذا عاهدَ غدَر، وإذا خاصمَ فجرَ، وإذا أتمنَ خان]؛
فهذه العلامات فيما يتعلق بظاهر الممارسة العملية؛ فبعض الناس قد يتصف ببعضها؛ وربما تحققت كلها في البعض الآخر!
ولكن ما هو أخطر من هذه كلها: ما يتعلق بقضية الولاء والبراء القلبي، ولا تظهر حقيقة أحوال الناس من مفهوم هذا المبدأ الأساس إلا في أتون الفتن والحروب وضعف أهل الإيمان، فعنـدَها تتمايز الصفوف ويظهر غبش هذا التدين المغشوش، وتعرف من معك ومن عليك!
تأمل قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تَتَّخِذوا آباءَكُم وَإِخوانَكُم أَولِياءَ إِنِ استَحَبُّوا الكُفرَ عَلَى الإيمانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمونَ﴾ [التوبة: ٢٣]،
وقوله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تَتَّخِذُوا اليَهودَ وَالنَّصارى أَولِياءَ بَعضُهُم أَولِياءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللَّهَ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ﴾ [المائدة: ٥١].
وقوله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تَتَّخِذوا عَدُوّي وَعَدُوَّكُم أَولِياءَ تُلقونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَد كَفَروا بِما جاءَكُم مِنَ الحَقِّ يُخرِجونَ الرَّسولَ وَإِيّاكُم أَن تُؤمِنوا بِاللَّهِ رَبِّكُم إِن كُنتُم خَرَجتُم جِهادًا في سَبيلي وَابتِغاءَ مَرضاتي تُسِرّونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وَأَنا أَعلَمُ بِما أَخفَيتُم وَما أَعلَنتُم وَمَن يَفعَلهُ مِنكُم فَقَد ضَلَّ سَواءَ السَّبيلِ﴾ [الممتحنة: ١].
ستجد أن هذه الآيات وغيرها تتحدث عن الولاء المقتضي للمحبة والنصرة والنصح الذي لا ينطوي القلب فيه على غش أو خبيئة سوء. وهنا يكمن سر العقيدة وحقيقة الانتماء، فليست العبرة بوجودك مع المؤمنين في أداء الشعائر من صلاة وصيام وحج وغيرها، بل العبرة مع هذه أين قلبك في المحبة والنصحية والنصرة والجهاد، ومع أي طرف تقف؟
تحسس قلبك هنا .. وهنا ستعرف من أنت.
خرج مع النبيِّ ﷺ في غزوة تبوك طائفة من المنافقين بأبدانهم، ولكن قلوبهم كانت كالعادة عليه؛ ففضحهم الله بسورة المقشقشة الكاشفة الفاضحة؛ وما زال يتحدث عنهم فيها - ومنهم، ومنهم، ومنهم - حتى كاد أن يسميهم بأسمائهم، وهم معه في صف الجيش!
بينما تخلف عن الغزو في المدينة قوم آخرون بأبدانهم ولكن قلوبهم كانت مع رسول اللهِ ﷺ أينما حلّ وارتحل!
قال ﷺ: «إنَّ بالمَدِينَةِ لَرِجَالًا ما سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إلَّا كَانُوا معكُمْ؛ حَبَسَهُمُ المَرَضُ. وفي رواية: إلَّا شَرِكُوكُمْ في الأجْرِ»! [ رواه مسلم ].
فالعبرة ليست بحضورك اللافت مع المؤمنين وقت عزهم وعافيتهم ورخائهم؛ ولكن العبرة أين موقعك الثابت منهم عند ابتلائهم وامتحانهم وشدتهم وضعفهم؟
تختلف أو تتفق مع فلان أو علان من الناس، ومع فصيل أو طائفة أوجماعة من المسلمين، لكن عندما يتعلق الأمر بالإسلام والكفر فلا خيار لك، فإما أن تكون في صفهم أو في صف عدوهم؛ ليس هناك منطقة ضبابية وسط؛ بين الفريقين؛ فمودة الكافر التي تصل بك إلى حب نصرته وممالأته على المؤمنين؛ أو بغض المؤمن الذي قد يصل بك إلى تمني هزيمته وانتصار الكافر عليه، فضلًا عن مظاهرة الكفار والوقوف بصفهم ضد المسلمين؛ فإن النفاق هنا نفاق اعتقادي جليٌ من الدرجة الأولى؛ وصاحبه مع أولئك الذين عناهم الله بقوله:
﴿وَيَحلِفونَ بِاللَّهِ إِنَّهُم لَمِنكُم وَما هُم مِنكُم وَلكِنَّهُم قَومٌ يَفرَقونَ * لَو يَجِدونَ مَلجَأً أَو مَغاراتٍ أَو مُدَّخَلًا لَوَلَّوا إِلَيهِ وَهُم يَجمَحونَ﴾ [التوبة: ٥٦-٥٧]
وهذا كحال الرافضة والباطنية ومن على شاكلتهم من العلمانيين المتصهينين وغيرهم من المتمالئين مع أعداء الإسلام على المسلمين، ومظاهرتهم عليهم.
وحقيقة الأمر هنا: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمونَ}، {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللَّهَ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ}، {وَمَن يَفعَلهُ مِنكُم فَقَد ضَلَّ سَواءَ السَّبيلِ}.
وتلك هي الخلاصة لمن أراد أن يعرف موقعه، ويتحسس قلبه، ويتأكد من سلامته من النفاق أم لا.